فصل: الْفَوَائِدُ الدِّينِيَّةُ لِلطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمِنْ دَلَائِلَ تَقْلِيدِ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجِينَ الْمَسَاكِينِ فِي النَّظَافَةِ الظَّاهِرَةِ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا فِيهَا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْعَقْلِ وَالْفَلْسَفَةِ، أَنَّهُمْ فِي غَسْلِ الْأَطْرَافِ يَسْتَبْدِلُونَ مَا يُسَمُّونَهُ «التُّوَالِيتَّ» بِالْوُضُوءِ الَّذِي هُوَ أَكْمَلُ مِنْهُ وَأَنْفَعُ، وَأَنَّ مَنْ يُعْنَى مِنْهُمْ بِأَسْنَانِهِ يَسْتَبْدِلُ فِي تَنْظِيفِهَا «الْفُرْشَةَ» بِمِسْوَاكِ الْأَرَاكِ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْهَا بِشَهَادَةِ أَئِمَّتِهِمُ الْإِفْرِنْجِ، كَمَا قَالَ أَحَدُ الْأَطِبَّاءِ الْأَلْمَانِيِّينَ لِمَنْ أَوْصَاهُ بِأَسْنَانِهِ: «عَلَيْكَ بِشَجَرَةِ مُحَمَّدٍ» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ جَاءَ فِي مَجَلَّةِ (غَازِتَةِ بَارِيسَ الطِّبِّيَّةِ) تَحْتَ عُنْوَانِ «عِنَايَةِ الْعَرَبِ بِالْفَمِ»: بِتَأْثِيرِ السِّوَاكِ تَصِيرُ الْأَسْنَانُ نَاصِعَةَ الْبَيَاضِ، وَاللِّثَةُ وَالشَّفَتَانِ جَمِيلَةَ اللَّوْنِ الْأَحْمَرِ، إِلَى أَنْ قَالَتْ: وَإِنَّهُ لَيَسُوؤُنَا أَلَّا تَكُونَ عِنَايَتُنَا بِأَفْوَاهِنَا، وَنَحْنُ أَهْلُ الْمَدَنِيَّةِ، كَعِنَايَةِ الْعَرَبِ بِهَا، وَقَالُوا: إِنَّ مَا فِي عُودِ الْأَرَاكِ مِنَ الْمَادَّةِ الْعَفَصِيَّةِ الْعَطِرَةِ يَشُدُّ اللِّثَةَ، وَيَحُولُ دُونَ حَفْرِ الْأَسْنَانِ، وَإِنَّهُ يُقَوِّي الْمَعِدَةَ عَلَى الْهَضْمِ، وَيَدِرُّ الْبَوْلَ، وَقَدْ فَاتَنَا أَنَّ نَذْكُرَ هَذَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى السِّوَاكِ.
و(ثَالِثًا): إِذَا ثَبَتَ بِالْعَقْلِ وَالْبُرْهَانِ وَالِاخْتِبَارِ وَالْعِيَانِ أَنَّ إِقْنَاعَ أُمَّةٍ مِنَ الْأُمَمِ بِالنَّفْعِ وَالضَّرَرِ مُتَعَذِّرٌ، وَأَنَّ حَمْلَهَا عَلَى تَرْكِ الضَّارِّ وَعَمَلِ النَّافِعِ لِلْأَفْرَادِ وَلِلْجُمْهُورِ؛ لِأَنَّهُ نَافِعٌ، غَيْرُ كَافٍ فِي هِدَايَتِهَا، ثَبَتَ أَنَّ إِصْلَاحَ شَأْنِهَا بِالْفَضِيلَةِ وَالْآدَابِ، وَتَرْكِ الْمَضَارِّ، وَالِاجْتِهَادِ فِي سَبِيلِ الْمَنَافِعِ، يَتَوَقَّفُ عَلَى تَأْثِيرِ مُؤَثِّرٍ آخَرَ يَكُونُ لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى النَّفْسِ؛ وَهُوَ الدِّينُ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ مَعْرِفَةِ حُكْمِ الْأَعْمَالِ، وَكَوْنِهَا طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى تُؤَهِّلُ الْعَامِلَ لِسَعَادَةِ النَّفْسِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا يَسْتَفِيدُ بِهَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنَ الْمَنْفَعَةِ فِي الدُّنْيَا، هُوَ الَّذِي يُرْجَى أَنْ يُذْعِنَ لَهُ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَطْمَئِنُّ قَلْبُهُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِذْعَانِ لِأَحْكَامِ الدِّينِ إِلَّا إِذَا عَرَفَ حِكْمَةَ كُلِّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِهِ، وَكُلِّ حُكْمٍ مِنْ كُلِّيَّاتِ أَحْكَامِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُذْعِنُ لِكُلِّ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ دِينُهُ، وَلَا يُهِمُّهُ الْبَحْثُ عَنْ حِكْمَتِهِ؛ لِأَنَّ اسْتِعْدَادَهُ لِطَلَبِ الْحِكْمَةِ ضَعِيفٌ، وَلَكِنَّهُ إِذَا قَبِلَ ذَلِكَ، بَادِئَ بَدْءٍ، مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةِ حِكْمَتِهِ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَنَالَ حَظًّا مِنْ هَذِهِ الْحِكْمَةِ عِنْدَمَا يَتَفَقَّهُ فِي دِينِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَمَهْمَا ضَعُفَ الدِّينُ فَهُوَ أَعَمُّ تَأْثِيرًا مِنَ الْإِقْنَاعِ الْعَقْلِيِّ، فَقَلَّمَا يُوجَدُ مُسْلِمٌ مُتَدَيِّنٌ لَا يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَمَا نَرَاهُ مِنْ تَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّنْ يُسَمَّوْنَ مُسْلِمِينَ لِلْكَثِيرِ مِنْ مُهِمَّاتِ الْإِسْلَامِ، فَسَبَبُهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ إِلَّا الِاسْمُ، فَلَا تَعَلَّمُوا حَقِيقَتَهُ، وَلَا تَرَبَّوْا عَلَى تَزْكِيَتِهِ.
وَ(رَابِعًا): أَنَّ مَعْنَى كَوْنِ الطَّهَارَةِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الْأَعْمَالِ الْأَدَبِيَّةِ وَالْفَضَائِلَ، دِينًا هُوَ أَنَّ الْوَحْيَ الْإِلَهِيَّ يَأْمُرُنَا بِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالْفَوَائِدِ الذَّاتِيَّةِ الَّتِي تَنْفَعُنَا، وَتَدْرَأُ الضُّرَّ عَنَّا، وَهُوَ مَا بَيَّنَّاهُ أَوَّلًا، وَلِفَوَائِدَ أُخْرَى لَا نُدْرِكُهَا إِلَّا بِجَعْلِهَا مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ.
وَ(خَامِسًا):- وَهَذَا هُوَ الْمَقْصِدُ، وَمَا قَبْلُهُ تَمْهِيدٌ وَمُقْدِمَاتٌ- أَنَّ الْفَوَائِدَ مِنْ جَعْلِ الطَّهَارَةِ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ وَعِبَادَتِهِ أَرْبَعٌ، وَهِيَ كَمَا نَرَى:

.الْفَوَائِدُ الدِّينِيَّةُ لِلطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ:

الْفَائِدَةُ الْأُولَى:
أَنْ يَتَّفِقَ عَلَى الْمُوَاظَبَةِ عَلَيْهَا كُلُّ مُذْعِنٍ لِهَذَا الدِّينِ؛ مِنْ حَضَرِيٍّ وَبَدَوِيٍّ، وَذَكِيٍّ وَغَبِيٍّ، وَفَقِيرٍ وَغَنِيٍّ، وَكَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَأَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ، وَعَالِمٍ بِحِكْمَتِهَا وَجَاهِلٍ لِمَنْفَعَتِهَا حَتَّى لَا تَخْتَلِفَ فِيهَا الْآرَاءُ، وَلَا تَحُولَ دُونَ الْعَمَلِ بِهَا الْأَهْوَاءُ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْبَشَرِ فِي جَمِيعِ مَا يَسْتَقِلُّونَ فِيهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ.
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ:
أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُذَكِّرَاتِ لَهُمْ بِفَضْلِ اللهِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ؛ حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ مَا يَنْفَعُهُمْ وَيَدْرَأُ الضَّرَرَ عَنْهُمْ، فَإِذَا تَذَكَّرُوا أَنَّهُ يُرْضِيهِ عَنْهُمْ أَنْ تَكُونَ أَجْسَادُهُمْ عَلَى أَكْمَلِ حَالٍ مِنَ النَّظَافَةِ وَالطَّهَارَةِ، وَيَتَذَكَّرُونَ أَنَّ أَهَمَّ مَا فَرَضَ عَلَيْهِمْ لِأَجْلِهِ تَطْهِيرَ أَجْسَادِهِمْ هُوَ أَنَّهُ مِنْ وَسَائِلِ تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ وَتَطْهِيرِ قُلُوبِهِمْ وَتَهْذِيبِ أَخْلَاقِهِمُ الَّتِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا صَلَاحُ أَعْمَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَنْظُرُ نَظَرَ الرِّضَاءِ وَالرَّحْمَةِ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ، لَا إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَبْدَانِ، فَيَعْنُونَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ؛ تَوَسُّلًا بِهِمَا إِلَى سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْإِسْلَامِ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (2: 201).
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ:
أَنَّ مُجَرَّدَ مُلَاحَظَةِ الْمُؤْمِنِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى بِالْعَمَلِ، وَابْتِغَاءِ مَرْضَاتِهِ بِالْإِتْيَانِ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي شَرَعَهُ، مِمَّا يُغَذِّي الْإِيمَانَ بِهِ، وَيَطْبَعُ فِي النَّفْسِ مَلَكَةَ الْمُرَاقَبَةِ لَهُ، فَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ كُلِّ طَهَارَةٍ بِهَذِهِ النِّيَّةِ وَالْمُلَاحَظَةِ، الَّتِي شَرَحْنَا مَعْنَاهَا فِي بَحْثِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ، جَذْبَةٌ إِلَى حَظِيرَةِ الْكَمَالِ الْمُطْلَقِ، تَتَزَكَّى بِهَا نَفْسُهُ، وَتَعْلُو بِهَا هِمَّتُهُ، وَتَتَقَدَّسُ بِهَا رُوحُهُ، فَيَصْلُحُ بِذَلِكَ عَمَلُهُ، وَقِسْ عَلَى هَذِهِ الْعِبَادَةِ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ؛ لِهَذَا كَانَ لِأُولَئِكَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، مِنْ صَحَابَةِ النَّبِيِّ الْمُخْتَارِ، تِلْكَ الْأَعْمَالُ وَالْآثَارُ، وَالْعَدْلُ وَالرَّحْمَةُ وَالْإِيثَارُ، الَّتِي لَمْ يَعْهَدِ الْبَشَرُ مِثْلَهَا فِي عَصْرٍ مِنَ الْأَعْصَارِ، وَهَذَا مِمَّا يَتَجَلَّى بِهِ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَضَعْفِ قَوْلِ مَنْ ذَهَبَ إِلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا.
الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ:
اتِّفَاقُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَدَاءِ هَذِهِ الطَّهَارَاتِ بِكَيْفِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَأَسْبَابٍ وَاحِدَةٍ أَيْنَمَا كَانُوا وَمَهْمَا كَثُرُوا وَتَفَرَّقُوا، وَأَنَّ اتِّفَاقَ أَفْرَادِ الْأُمَّةِ فِي الْأَعْمَالِ مِنْ أَسْبَابِ الِاتِّفَاقِ فِي الْقُلُوبِ؛ فَكُلَّمَا كَثُرَ مَا تَتَّفِقُ بِهِ كَانَ اتِّحَادُهَا أَقْوَى، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
ثُمَّ نَقُولُ (سَادِسًا): إِنَّ مَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ تَقْصِيرِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الطَّهَارَةِ الْعَامَّةِ، لَا حُجَّةَ فِيهِ، نَعَمْ إِنَّهُمْ صَارُوا يُقَصِّرُونَ فِي النَّظَافَةِ، وَيَعُدُّونَ الطَّهَارَةَ أَمْرًا تَعَبُّدِيًّا، لَا يُنَافِي الْقَذَارَةَ، وَيَرَوْنَ أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ طَاهِرًا، وَإِنْ كَانَ كَالْجِيفَةِ فِي وَسَخِهِ وَنَتَنِهِ، وَأَنْ يَكُونَ نَظِيفًا تَامَّ النَّظَافَةِ، وَهُوَ غَيْرُ طَاهِرٍ، وَيَعُدُّونَ كَثِيرًا مِنَ الطِّيبِ وَالْمَائِعَاتِ الْمُطَهِّرَةِ نَجِسَةً؛ كَالْكُحُولِ، وَأَنْوَاعِ الطِّيبِ الَّتِي يَدْخُلُ فِيهَا. وَنَحْنُ نَقُولُ: إِنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ حُجَّةٌ عَلَى أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ، وَلَيْسُوا حُجَّةً عَلَيْهِ، إِلَّا عِنْدَ مَنْ يَجْهَلُ حَقِيقَتَهُ وَيَتَلَقَّاهُ عَنْهُمْ، لَا عَنْ كِتَابِهِ الْمُنَزَّلِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ الْمُرْسَلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَكْثَرَ هَؤُلَاءِ الْمُتَفَرْنِجِينَ الْمُعْتَرِضِينَ يَجْهَلُونَ حَقِيقَتَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَعْرِفُ مِنْ أُصُولِهِ وَلَا مِنْ فُرُوعِهِ شَيْئًا، إِلَّا مَا يَسْمَعُهُ وَيَرَاهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَوَامِّ، وَلاسيما الْمُعَمَّمِينَ مِنْهُمْ، بَلْ يَعُدُّونَ مِنَ الْإِسْلَامِ مَا يَسْمَعُونَهُ مِنْ بَعْضِ أَعْدَائِهِ، وَيَقْرَءُونَهُ فِي صُحُفِهِمْ وَكُتُبِهِمُ الَّتِي يَنْشُرُهَا دُعَاةُ النَّصْرَانِيَّةِ، وَنَحْوُهَا مَا يَكْتُبُهُ رِجَالُ السِّيَاسَةِ؛ لِأَنَّهُمْ يُتَّبِعُونَ فِيهِ الْهَوَى، فَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ يَنْظُرُ إِلَى كُتُبِ الْإِسْلَامِ، وَإِلَى حَالِ الْمُسْلِمِينَ بِعَيْنِ السُّخْطِ، مُلْتَمِسًا مِنْهَا مَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَعِيبَهُ وَيُنَفِّرَ مِنْهُ؛ فَهُوَ لَا يَطْلُبُ حَقِيقَتَهُ، وَلِذَلِكَ لَا يُدْرِكُهَا، وَلَا يَقُولُ مَا ظَهَرَ لَهُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِهِ، بَلْ يُحَرِّفُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي الطَّهَارَةِ: أَنَّهَا هِيَ الْمُبَالَغَةُ فِي النَّظَافَةِ مِنْ غَيْرِ تَنَطُّعٍ، وَلَا وَسْوَسَةٍ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى، حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَجِبُ فِي الْوُضُوءِ النِّيَّةُ وَلَا التَّرْتِيبُ الَّذِي ثَبَتَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْعَمَلِ الْمُطَّرِدِ. وَقَدْ أَوْجَبَ الْإِسْلَامُ طَهَارَةَ الْبَدَنِ وَالثَّوْبِ وَالْمَكَانِ، كَمَا أَوْجَبَ غَسْلَ الْأَطْرَافِ الَّتِي يَعْرِضُ لَهَا الْوَسَخُ كُلَّ يَوْمٍ بِأَسْبَابٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَكَرَّرَ كُلَّ يَوْمٍ، وَغَسْلِ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِأَسْبَابٍ مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَتَكَرَّرَ كُلَّ عِدَّةِ أَيَّامٍ، وَأَكَّدَ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ، وَحَثَّ عَلَى السِّوَاكِ وَالطِّيبِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ امْتِيَازُ الْإِسْلَامِ بِالنَّظَافَةِ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، حَتَّى صَارَ هَذَا مَعْرُوفًا لَهُ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ، وَسَمِعْتُ كَثِيرِينَ مِنْ أُدَبَاءِ النَّصَارَى يَذْكُرُونَ هَذِهِ الْمَزِيَّةِ لِلْإِسْلَامِ، وَيُعَلِّلُونَهَا بِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ قَلِيلَةَ الْعِنَايَةِ بِالنَّظَافَةِ؛ لِقِلَّةِ الْمَاءِ فِي بِلَادِهَا، وَلِقُرْبِ أَهْلِ الْحَضَرِ مِنْهَا مِنَ الْبَدْوِ فِي قِلَّةِ التَّأَنُّقِ وَالتَّرَفِ.
نَفْيُ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ وَإِثْبَاتِ الْيُسْرِ مَا نَفَاهُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الْحَرَجِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَاعِدَةٌ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، وَأَصْلٌ مِنْ أَعْظَمِ أُصُولِ الدِّينِ، تُبْنَى عَلَيْهِ وَتَتَفَرَّعُ عَنْهُ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ أُطْلِقَ هُنَا نَفْيُ الْحَرِجِ، وَالْمُرَادُ بِهِ- أَوَّلًا وَبِالذَّاتِ- مَا يَتَعَلَّقُ بِأَحْكَامِ الْآيَةِ، أَوْ بِمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ. وَثَانِيًا- وَبِالتَّبَعِ- جَمِيعُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ: مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا شَرَعَهُ لَكُمْ مِنْ أَحْكَامِ الطَّهَارَةِ، مَثَلًا؛ لِأَنَّ حَذْفَ الْمُتَعَلِّقِ يُؤْذِنُ بِالْعُمُومِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ كُلِّهِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ؛ فَقَالَ: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (23: 78) الْآيَةَ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ مِنَ الدِّينِ كُلِّهِ؛ لِأَنَّ سُورَةَ الْحَجِّ مِنَ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ الَّتِي بَيَّنَتْ أُصُولَ الْإِسْلَامِ، وَقَوَاعِدَهُ الْكُلِّيَّةِ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ بِمَا لابد مِنْهُ مِنْ عَزَائِمِ الْأُمُورِ لَيْسَ مِنَ الْحَرَجِ فِي شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْحَرَجَ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ حَقَّ الْجِهَادِ، وَهُوَ بَذْلُ الْجُهْدِ فِي الطَّرِيقِ الْمُوصِلِ إِلَى إِقَامَةِ سُنَنِ اللهِ تَعَالَى وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ وَكُلِّ مَا يُرْضِيهِ مِنْ عِبَادِهِ مِنَ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ وَالْفَضِيلَةِ. وَلَا يَصْعَدُ الْإِنْسَانُ إِلَى مُسْتَوَى كَمَالِهِ إِلَّا بِبَذْلِ الْجُهْدِ فِي مَعَالِي الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا الْحَرَجُ هُوَ الضِّيقُ وَالْمَشَقَّةُ فِيمَا ضَرَرُهُ أَرْجَحُ أَوْ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِ؛ كَالْإِلْقَاءِ بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ، وَالِامْتِنَاعِ مَنْ سَدِّ الرَّمَقِ بِلَحْمِ الْمَيْتَةِ أَوِ الْخِنْزِيرِ أَوِ الْخَمْرِ لِمَنْ لَا يَجِدُ غَيْرَهَا، وَكَاسْتِعْمَالِ الْمَرِيضِ الْمَاءَ فِي الْوُضُوءِ أَوِ الْغُسْلِ مَعَ خَشْيَةِ ضَرَرِهِ، وَكَذَلِكَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْبَرْدِ بِهَذَا الْقَيْدِ، أَوْ فِيمَا يُمْكِنُ إِدْرَاكُ غَرَضِ الشَّارِعِ مِنْهُ بِدُونِ مَشَقَّةٍ فِي وَقْتٍ آخَرَ؛ كَالصِّيَامِ فِي الْمَرَضِ وَالسَّفْرِ، وَقَدْ صَرَّحَ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ، بَعْدَ بَيَانِ فَرْضِيَّةِ الصِّيَامِ، وَالرُّخْصَةِ لِلْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ بِالْفِطْرِ، بِأَنَّهُ يُرِيدُ بِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِهِمُ الْعُسْرَ.
وَقَدْ بَنَى الْعُلَمَاءُ عَلَى أَسَاسِ نَفْيِ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ، وَإِثْبَاتِ إِرَادَةِ اللهِ تَعَالَى الْيُسْرَ بِالْعِبَادِ فِي كُلِّ مَا شَرَعَهُ لَهُمْ- عِدَّةَ قَوَاعِدَ وَأُصُولٍ، فَرَّعُوا عَلَيْهَا كَثِيرًا مِنَ الْفُرُوعِ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ، مِنْهَا: «إِذَا ضَاقَ الْأَمْرُ اتَّسَعَ»، و«الْمَشَقَّةُ تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ»، و«دَرْءُ الْمَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ»، و«الضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ»، و«مَا حُرِّمَ لِذَاتِهِ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ»، و«مَا حُرِّمَ لِسَدِّ الذَّرِيعَةِ يُبَاحُ لِلْحَاجَةِ».
وَقَدْ نَاطَ الْفُقَهَاءُ مَعْرِفَةَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي تَجْلِبُ التَّيْسِيرَ، وَتَكُونُ سَبَبَ التَّخْفِيفِ بِعُرْفِ النَّاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ.
وَاسْتَشْكَلَ الْقَرَافِيُّ هَذَا الضَّابِطَ فِيمَا يَسْكُتُونَ عَنْ بَيَانِهِ وَتَحْدِيدِهِ مِنَ الْعُرْفِ، وَقَالَ: إِنَّ الْفُقَهَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعُرْفِ، وَلَيْسَ وَرَاءَهُمْ مِنْ أَهِلْهُ إِلَّا الْعَوَامُّ الَّذِينَ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِمْ وَلَا رَأْيِهِمْ فِي الدِّينِ (وَعِبَارَتُهُ: لَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُمْ فِي الدِّينِ) وَرَأَى إِزَالَةَ الْإِشْكَالِ بِأَنَّ مَا لَمْ يَرِدِ الشَّرْعُ بِتَحْدِيدِهِ يَتَعَيَّنُ تَقْرِيبُهُ بِقَوَاعِدِ الشَّرْعِ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يَفْحَصَ عَنْ أَدْنَى مَشَاقِّ تِلْكَ الْعِبَادَةِ الْمُعَيَّنَةِ، فَيُحَقِّقُهُ بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوِ اسْتِدْلَالٍ، ثُمَّ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَشَاقِّ، مِثْلَ تِلْكَ الْمَشَقَّةِ أَوْ أَعْلَى مِنْهَا، جَعَلَهُ مُسْقِطًا، وَإِنْ كَانَ أَدْنَى مِنْهَا لَمْ يَجْعَلْهُ مُسْقِطًا، مِثَالُهُ: التَّأَذِّي بِالْقَمْلِ فِي الْحَجِّ مُبِيحٌ لِلْحَلْقِ بِالْحَدِيثِ الْوَارِدِ عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، فَأَيُّ مَرَضٍ آذَى مِثْلُهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ أَبَاحَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالسَّفَرُ مُبِيحٌ لِلْفِطْرِ؛ فَيُعْتَبَرُ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الْمَشَاقِّ، انْتَهَى. وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ الشَّاطِّ الْأَنْصَارِيُّ.
وَأَقُولُ: فِيمَا اسْتَشْكَلَهُ مِنْ نَوْطِ مَا لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ بِالْعُرْفِ، نَظَرٌ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ الَّذِينَ نَاطُوا بَعْضَ الْمَسَائِلِ بِالْعُرْفِ إِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَفْذَاذًا فِي أَثْنَاءِ الْبَحْثِ أَوِ التَّصْنِيفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْهَلَ كُلُّ فَرْدِ مِنْهُمُ الْعُرْفَ الْعَامَّ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ، وَمَا اجْتَمَعَ عُلَمَاءُ عَصْرٍ أَوْ قُطْرٍ لِلْبَحْثِ عَنْ عُرْفِ النَّاسِ فِي أَمْرٍ وَمُحَاوَلَةِ ضَبْطِهِ وَتَحْدِيدِهِ ثُمَّ عَجَزُوا عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَأَحَالُوا فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَامَّةِ. إِنَّ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْفَقِيرَ الْبَائِسَ، وَالضَّعِيفَ الْمُنَّةِ (الْمُنَّةُ، بِالضَّمِّ: الْقُوَّةُ وَالْجَلَدُ) وَالْغَنِيَّ الْمُتْرَفَ وَالْقَوِيَّ الْجَلَدَ، وَغَيْرَ ذَلِكَ فَيَشُقُّ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا لَا يَشُقُّ عَلَى الْجُمْهُورِ، وَيَسْهُلُ عَلَى بَعْضِهِمْ مَا لَا يَسْهُلُ عَلَى الْجُمْهُورِ؛ فَالرُّجُوعُ إِلَى الْعُرْفِ فِيمَا يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ، وَمَا لَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ ضَرُورِيٌّ لابد مِنْهُ، وَهُوَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِمُعَاشَرَةِ النَّاسِ وَتَعَرُّفِ شُئُونِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَقَدْ كَثُرَتِ الدَّوَاهِي فِي آرَاءِ الْفُقَهَاءِ الِاجْتِهَادِيَّةِ الَّذِينَ يَجْهَلُونَ أَمْرَ الْعَامَّةِ، وَرَحِمَ اللهُ مَنْ قَالَ: «الْفَقِيهُ هُوَ الْمُقْبِلُ عَلَى شَأْنِهِ الْعَارِفُ بِأَهْلِ زَمَانِهِ»، وَمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مِنَ التَّقْرِيبِ مَحَلُّهُ مَا لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا عُرْفَ مِمَّا يَقَعُ لِلْأَفْرَادِ فَيَسْتَفْتُونَ فِيهِ، وَأَمَّا نَوْطُ كُلِّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِآرَاءِ الْفُقَهَاءِ، فَهُوَ الَّذِي أَوْقَعَ الْمُسْلِمِينَ فِي أَشَدِّ الْحَرَجِ وَالْعُسْرِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، حَتَّى صَارُوا يَتَسَلَّلُونَ مِنْهُ لِوَاذًا، وَيَفِرُّونَ مِنْ حَظِيرَتِهِ زُرَافَاتٍ وَأَفْذَاذًا، وَاسْتَبْدَلَ حُكَّامُهُمْ بِشَرْعِهِ قَوَانِينَ الْأَجَانِبِ، وَجَعَلُوا لَهُمْ وَلِأَنْفُسِهِمْ حَقَّ التَّشْرِيعِ الْعَامِّ، وَنَسْخَ مَا شَاءُوا مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ. وَسَنَعُودُ إِلَى هَذَا الْبَحْثِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى. اهـ.